نابلس - خاص :
من بين أزقة البلدة القديمة و حواريها الضيقة و بيوتها المتلاصقة تشدّ بعضها بعضاً ، يخرج مقاتل شرس عنيد و قائد صنديد من كتائب شهداء الأقصى ليسطّر بجهاده أروع أمثلة الإيثار و التضحية في سبيل الله و ليكون من الذين قال الله تعالى فيهم "و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" .
و ما كانت نابلس تدري و هي ترقص طرباً على وقع ضربات الاستشهاديين من بين أبنائها في القدس و "تل أبيب" أن فارسها المقدام مازن فريتخ هو من كان ينظّم قوافي تلك الملاحم الممهورة بدماء بني صهيون ليغسل بها عار السنين الذي خلفته مؤامرات الغدر في أوسلو و البيت الأبيض .
الميلاد و النشأة :
في يوم مبارك من أيام عام 1978 و لأسرة مجاهدة متواضعة ولد الشهيد مازن فريتخ في بيت بسيط من بيوت حارة الياسمينية على أطراف البلدة القديمة من نابلس ليتشكّل به أسرة قوامها عشرة أنفار و لتكتمل به فرحة الوالد الذي ما لبث أن لبى نداء ربه قبل أن يرى طفله و قد أضحى رجلاً من رجال الجهاد و علماً من أعلام المقاومة .
تميّز شهيدنا منذ صغره بالجرأة و القوة و الشجاعة و قوة الشخصية و تلقّى علومه في مدرسة ابن الهيثم و درس حتى الصف الأول ثانوي حيث أصابته رصاصة صهيونية في ساقه أقعدته عن الدراسة ، بالإضافة إلى سوء الحال و تدهور الأوضاع المعيشية لينخرط بعد شفائه في ميادين العمل ، و بدأ في مهنة القصارة و أخذ على عاتقه مسئولية إخوته و أخواته إضافة إلى عمتيه اللتين كانتا تقيمان معهم في نفس المنزل ، فتحمّل المسئولية مبكراً و كان أهلاً لها خاصة و أنه لم يكن للعائلة معيل سواه بعد أن توفي والده و هو صغير .
نشأ شهيدنا النشأة الطيبة الصالحة و تربى على حب الله و رسوله الكريم صلى الله عليه و سلم فكان ملازماً للمسجد ، ملتزماً بالصلاة يحب الخير و فعله و كان مثالاً للأخلاق الحميدة فأصبح محبوباً بين أهله و جيرانه و رفاقه ، و كان عطوفاً حنوناً على إخوته خصوصاً على أخواته الثلاث ، و يصل رحمه باستمرار و يتفقّد أقرباءه .
انتفاضة الأقصى ... و ضالّته المنشودة :
كان شهيدنا - رحمه الله - عاشقاً لوطنه ، و محباً لبلده عشق الشهادة فكان يتمنّى أن يقضي نحبه شهيداً و عاش على هذا الأمل حتى جاءت انتفاضة الأقصى فوجد فيها ضالته و فرصته السانحة التي لطالما بحث عنها و تمناها بعد سبع سنوات عجاف من سني أوسلو السوداء التي ذاق خلالها الشعب كأس المذلة و الهوان .
و منذ الأسابيع الأولى لانتفاضة الأقصى استعدّ مازن للعمل ، و شمّر عن ساعديه ، فقد توفّرت لديه الرغبة و العزيمة ، و لكن كان ينقصه عنصر أساس في العمل الجهادي ... إلا و هو السلاح ... فكيف يحصل عليه ؟ و من أين له المال الكافي لشرائه و هو المكلّف بالنفقة على أهل بيته و مصادر الرزق محدودة ، و بالكاد تكفي لشراء الأكل و الشراب ؟!! ..
أمام هذه المعادلة العصيبة وقف شهيدنا ناصباً أمام عينيه ميزان العدل الإلهي الذي تكفل بأرزاق العباد و وعد عباده المجاهدين بالخلود في جنات النعيم ، و بكل ثقة و دون تردّد قرّر شهيدنا السير في طريق ذات الشوكة مضحّياً بالغالي و النفيس لإعلان كلمة الله و لدحر الغزاة الغاصبين ، فسارع إلى بيع المنزل الذي اشتراه و لم يكن قد سدّد باقي أقساطه ليشتري بثمنه بندقية من طراز (أم 16) و كمية من الذخائر و ليبدأ مشواره الجهادي على بركة الله .
و لم تكد تنقضي أولى سنوات الانتفاضة المباركة حتى أضحى مازن علماً لامعاً من أعلام الجهاد و المقاومة ، فكان هو دائماً صاحب المبادرة ، فقبل الاجتياح الأول لمدينة نابلس لم يكن هناك أي وجود عسكريّ صهيوني داخل نابلس فكان شهيدنا يذهب إليهم بنفسه ، و تشهد له الطرق الالتفافية و النقاط العسكرية المترامية على قمم الجبال بالعديد من المعارك و الملاحم البطولية ، و كان يعود منها و لا يُرى عليه أيّ أثر ، حيث كان يبدو بين أهله و جيرانه طبيعياً ، إذ كان يحتفظ بأسرار عمله الجهادي في نفسه .
أحبّ مازن الشهداء حبا جماً و كان يبكي على فراقهم و لم تكن هناك جنازة لشهيد إلا و كان هو في مقدّمتها ، و لكن الشيء الذي ميّزه عن غيره أنه لم يكن يحمل سلاحه في تلك الجنازات رياء أو مفاخرة ، و لم يكن يطلق الرصاص في الهواء كما كان يفعل الكثيرون ، بل إنه كان يمسك بالرصاصة بإصبعه قائلاً : "هذه الرصاصة قد تساوي جندياً صهيونياً في يومٍ من الأيام" ، فكان حريصاً على عدم ذهابها في غير مكانها .
و بقي الشهيد يقاتل ببندقيته العزيزة مدة طويلة حتى قبل اجتياح نابلس بأشهر قليلة حيث طوّر أسلوب قتاله و انتقل من مرحلة البندقية إلى مرحلة العقل و الهندسة و التكتيك ، و بدأ في إعداد الأحزمة الناسفة ليصبح واحداً من أهم المطلوبين لقوات الاحتلال التي وضعته في مقدّمة قوائم المطلوبين للتصفية الجسدية .
و جاء الاجتياح الشامل لمدينة نابلس في نيسان عام 2002 لتبدأ معركة كسر الأذرع بين شهيدنا و قوات الاحتلال التي سارعت و قبل ساعات معدودة من بدء عدوانها على نابلس بقصف منزل مازن في وضح النهار لترتقي عمتاه زها و رشا شهيدتين فيما أصيب شقيقه إيهاب المعتقل حالياً في سجون الاحتلال و نجا الآخر بشار الذي يقبع هو الآخر في سجون الاحتلال ، و نجا هو كذلك رغم إصابته ببعض الشظايا من جراء القصف ، أما أخته الكبرى فقد أصيبت إصابة بالغة .
و ما إن دخلت قوات الاحتلال نابلس حتى انقضّ عليهم شهيدنا بكلّ ما أوتي من عدة و عتاد رغم جراحه التي أصيب بها إثر قصف منزله ، لكن فظاعة ما حلّ بأهله و بيته جعلته ينفض عن نفسه الغبار ليواصل الطريق الذي اختطه لنفسه ... طريق الجهاد و المقاومة .
قضى بعدها مازن عاماً كاملاً من المطاردة و التشرّد ، ذاق خلالها حرارة الصيف و برودة الشتاء ، و كان يقضي معظم لياليه ساهراً يحرس في سبيل الله تارة في البراري و تارة في الجبال و أخرى على أسطح البنايات يفترش الأرض و يلتحف السماء ، و لشدة حرصه و استعداده للقاء الله في أيّ لحظة كان شهيدنا لا يتحرّك نهاراً و لا يبيت ليلاً إلا على وضوء تام . و رغم صعوبة تنقّله و الخطر الذي كان يحدق به إلا أنه كان يتفقّد أخواته في بيوتهن و يقوم بواجبهن على التمام .
كان - رحمه الله - شديد الحرص و الحذر ، و كان صادقاً مع الله فأنقذه الله ذات ليلة من بين أيدي جنود الاحتلال رغم أنهم استولوا على بندقيته العزيزة و كامل ذخيرته و لكن الله هيّأ له بندقية أخرى و أبدله خيراً منها .
شارك شهيدنا في عدة عمليات نوعية ، و أقرّ الجيش الصهيوني بأنه شارك في عمليات قتل ما يزيد على 30 صهيونياً و عشرات الجرحى . و من بين العمليات التي شارك شهيدنا في إعدادها العملية الاستشهادية في التلة الفرنسية بالقدس المحتلة في صيف عام 2002 و التي قتل فيها أكثر من 7 صهاينة و جرح العشرات من الصهاينة ، و كذلك العملية النوعية المزدوجة في محطة الباصات المركزية القديمة بـ "تل أبيب" مطلع العام الحالي و التي أوقعت ما يزيد عن 23 صهيونياً و أصيب نحو 100 بجروح .
و من المعارك التي قابل شهيدنا جنود الاحتلال وجهاً لوجه كانت معركة بناية عالول و أبو صالحة وسط المدينة و التي خاضها هو و رفيق دربه الشهيد أحمد جود الله حيث شارك في قتل عددٍ من جنود الاحتلال و جرح آخرين .
و يتحقق حلم الشهادة ..
كان شهيدنا - رحمه الله - يقضي ليله هو و بعض إخوانه المطاردين من منزل لآخر و من نفق إلى نفق ، و إذا أدرك أنه سيشكّل خطراً على أحد السكان كان يترك ذلك البيت حتى لا يتسبّب في إيذائهم أو ضررهم .
كان مازن يتمنى من الله تعالى أن يرزقه الشهادة بصدق ، و كثيراً ما كان يقول : " أخشى أن تنتهي هذه الانتفاضة قبل أن أنال الشهادة" ... فقد كان شهيدنا يعشق الشهادة و يتلهف للقاء ربه و صحبة نبيه صلى الله عليه و سلم .
و استمر شهيدنا على هذا الحال إلى أن استقر به المقام مع اثنين من إخوانه المجاهدين من كتائب القسام و شهداء الأقصى في بناية في منطقة المخفية ، فكان على موعد مع الشهادة في تلك الليلة ، حيث حوصرت البناية و بأعداد ضخمة من قوات الاحتلال و دباباته و طائراته المروحية ، و بدأت المعركة بشكلٍ عنيف استعملت خلالها قوات الاحتلال كامل ترسانتها العسكرية مقابل ثلاثة من المجاهدين الواثقين بنصر الله ...
لكن الله قدّر أن يصاب رفيقا مازن مبكراً ليقعا في قبضة الاحتلال ، و ليبقى هو لوحده يقاتل بضراوة و استبسال منقطعي النظير فقتل منهم ضابطاً كبيراً برتبة كولونيل و جنديين آخرين أحدهما بحالة خطرة حسب اعترافات الجيش الصهيوني في حينه .
و في محاولة يائسة طلب الجنود و عبر مكبرات الصوت من مازن الاستسلام محاولين إقناعه بأن لا مجال للاستمرار بعد اعتقال رفيقيه ، و لكن أنى لهم ذلك و هو الذي كان يتمنّى هذه اللحظة ساعة بساعة و كان يدعو الله قائلاً : "اللهم إني أعوذ بك من أن أغتال من فوقي أو من أسفل مني ، و أسألك اللهم أن ألقى الأعداء لقاء ..." .
خاض مازن في تلك الليلة أكثر من اشتباك مع قوات الاحتلال ، و بعد مدة نزل من البناية و أفلت من حصار الجيش و أصبح بعيداً عن مرماهم ، لكنه كان صادقاً مع الله فقد طلب الشهادة بصدق ، فصعد إلى بناية أخرى و خاض اشتباكاً ثانياً رغم إصابته في الاشتباك الأول و طلب من سكان البناية مغادرتها حتى لا يتعرّضوا للأذى ، و رغم أنه فقد بندقيته في البناية الأولى بعد أن أصيب بجروحٍ إلا أنه قرّر مواصلة المعركة فاستلّ مسدسه و أخذ وضعاً مستحكماً على سدة مطبخ إحدى الشقق التي لا يتجاوز ارتفاعها 50 سم إلا أنه وجد فيها بفطنته العسكرية موقعاً استراتيجياً يتصيّد من خلالها جنود الاحتلال كما تصطاد الفئران ، و كان مع كلّ طلقة رصاص من مسدسه يطلق تكبيرة يزلزل بها قلوب الصهاينة .
و بعد أن اشتد غيظ الصهاينة منه ، ما كان منهم إلا أن أطلقوا اتجاهه قذائف دباباتهم لينهوا بها رائعة من روائع البطولة و الفداء التي عرفها تاريخ هذا الشعب المجاهد ، ففاضت روحه الطاهرة إلى بارئها .. و أسلم الأمانة لصاحبها .
و ما إن انقضت المعركة و انسحبت فلول الجيش الصهيوني من المنطقة حتى هبّت نابلس بشيبها و شبابها و أطفالها و نسائها ليخرجوا الجسد الطاهر من تلك الشقة ، و خرج الآلاف من أهالي المدينة يحملون الجسد الطاهر على الأكتاف و قد مزّقته القذائف و اخترقت إحدى الرصاصات جبينه محدثة فيه ثغرة عميقة .
و هتف المتظاهرون في المسيرة بهتافات التأييد لكتائب المقاومة الفلسطينية مطالبة إياها بردّ الصاع صاعين ثأراً للشهيد مازن ، فيما هتف آخرون بعبارات تندّد بأبو مازن .. و استقر المتظاهرون بعد مسيرة طويلة فيما تبقّى من منزل الشهيد ليلقي عليه أهله و أحباؤه النظرة الدنيوية الأخيرة قبل أن يفارقوه لينتقل بعدها للمستشفى حتى تتم الإجراءات المتبعة تمهيداً لتشييعه إلى مثواه الأخير .
لقد فقدت نابلس أسداً من أسودها المغاوير ... و فارساً من فرسانها الأشداء و بطلاً من أبطالها العظماء ...
ستبقى ذكراك يا مازن مخلدة في قلوب الصغار و الكبار ... و محفورة في أفئدة الثكالى و اليتامى و الأرامل ممن ثأرت لأبنائهن و أزواجهن و آبائهن ... و لن تنساك فلسطين علماً من أعلامها ... و نوراً يضيء للسالكين طريق العزة و الكرامة و الإباء .