تناهيد عضو ماسي
عدد المساهمات : 323
تاريخ التسجيل : 14/08/2010
| موضوع: النقيب / بهائي راغب شراب الإثنين سبتمبر 27, 2010 4:55 pm | |
| النقيب
بهائي راغب شراب
النقيب عادل، وحده فقط انتظر داخل الأرشيف المركزي الكبير، في السرايا الحكومية في غزة، بعد أن أعطى تعليمات واضحة للجميع بالمغادرة فورا، وبعد ساعات قليلة من بدء العدوان الصهيوني على غزة في الخامس من حزيران من العام 1967، فقد كان واضحا أمامه أن الأمور تسير في اتجاه معاكس تماما لما تروج له إذاعة "صوت العرب" بشأن تحقيق انتصارات كبرى للجيش والطيران المصري على قوات العدو الصهيوني المهاجمة. كل الدلائل السيئة كانت تأتي وحدها، فالقوات المصرية في القطاع انسحبت فور بدء العدوان، نجاة بأنفسهم من مصير مجهول، حيث أوامر المواجهة والقتال لم تصلهم بعد، خصوصا أن معظم ضباطهم لم يلتحقوا بعد بمواقعهم، ليكونوا معهم، يقودونهم ويوجهونهم. حتى الحاكم العام المصري نفسه.. أصيب بالشلل النفسي التام... وأصبح غير قادر على استيعاب الموقف ولا التحكم فيه، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يتخذ موقفا محددا إزاء صد الهجوم الصهيوني الكاسح على غزة.. النقيب عادل وحده.. ظل ينتظر داخل الأرشيف الأمني الفلسطيني.. الذي يحتوي على جميع الملفات الخاصة بالعمل المخابراتي والجنائي والوطني والسياسي.. وكل ما يتعلق بكل قضية أياً كان نوعها بما تتضمنه من أحداث وأشخاص داخل قطاع غزة.. الأرشيف.. الذي يعتبر ثروة أمنية عظيمة، تمثل خطراً محدقا رهيبا لو وقعت بأيدٍ لا تحسن استخدامها أو تستخدمها لأهداف لا تمت للعدالة والوطنية والشرف.. لأجل ذلك لا يجب أبدا لهذه الثروة أن تقع بيد اليهود.. الذين بات يشعر بهم وقد أصبحوا قريبين من فرض سيطرتهم العسكرية على مدينة غزة، واحتلالها بالكامل.. ومن ثم السيطرة على مبنى سرايا الحكومة.. حيث مركز الحكم وأجهزته في غزة.. وبالرغم من كونه يملك من السلطات الكثير من الصلاحيات التي تمكنه من التحرك بحرية وبمسئولية، من واقع منصبه باعتباره الرجل الأمني الأول في قطاع غزة بعد الحاكم المصري... لكن ما يختص بالأرشيف فقد كان له شأن آخر.. فقد رفض الحاكم العام المصري ما عرضه عليه بشأنه قبل أيام.. وأصدر أمرا مباشرا.. ألا يُمَسَّ هذا الأرشيف بأي حال من الأحوال.. الأخبار الميدانية.. تحمل الأسوأ من لحظة وأخرى.. وكلها غير مبشرة.. مما دفعه لإغلاق جهاز الراديو الذي يستمع منه إلى "صوت العرب".. الذي ظل يبشر بتدمير تل أبيب.. من خلال إعلاناته المتوالية عن الانتصارات الزائفة لسلاح الجو المصري.. الذي استطاع إسقاط أكثر من سبعين طائرة صهيونية.. حتى الآن.. ؟!!! وهو يرى أن ما يجري فوق أرض الواقع ينذره باقتراب الحدث الجلل..!! بالنسبة للنقيب عادل... الأمر لا يحتمل المغامرة.. لأنها قد تعني المقامرة بمصير رجالات فلسطين في غزة.. نعم مصيرهم.. فالعدو لن يألوا جهدا حتى يقوم باعتقالهم أو استغلالهم وابتزازهم.. لمنعهم من القيام بأي أنشطة تهدد وجودهم الاحتلالي في غزة.. في الأرشيف الأمني توجد الأحداث والأسماء والعناوين.. وتوجد فيه التفاصيل السرية بل الأكثر سرية خصوصا حول العمل الوطني الفلسطيني وكل ما يتعلق به من تجمعات وتحركات وانتماءات حزبية ودينية ومقاومة و.. كل شيء.. ماذا يعني ذلك.. إنه يعني شيئا واحدا فقط .. هكذا فكر النقيب عادل.. شيء واحد فقط وهو الذي يهمه الآن.. ويهتم له ألا يحصل العدو على هذا الأرشيف أبدا.. أبدا وبأي وسيلة وبأي ثمن.. حتى لو قضى شهيدا دفاعا عنه.. نعم يجب منع اليهود من الاستيلاء عليه كغنيمة سهلة لا تقدر بثمن.. ولا مجال الآن للحيرة ولا التردد في هذا الأمر.. لكن أوامر الحاكم المصري جاءت إليه مباشرة وواضحة.. بالحفاظ على الأرشيف ومحتوياته.. وبأي ثمن.. كيف يحافظ عليه.. كيف يحميه وأين يخبئه.. لا سبيل لذلك أبدا.. فالموقف يزداد صعوبة وكل دقيقة تمر تحمل أخبارا أكثر سوءا من التي قبلها.. ولا وقت.. بل ولا رجال يمكن لهم أن ينقلوه أو يدفنوه.. أو يخفوه في مكان آمن بعيدا عن السرايا. غزة الآن في معظمها تعد ساقطة فعليا بيد العدو.. حقا لم تدخلها قواته بعد.. فالدخول ليس مشكلة أبدا.. إنها مسالة وقت.. فالطرق كلها مفتوحة أمام قواته المهاجمة المتوغلة بدون توقف باتجاه إتمام احتلالهم للمدينة خلال ساعات فقط.. فقد انسحبت القوات المصرية من مواقعها المتقدمة على الحدود في مواجهة العدو الصهيوني.. وتفرقت قوات جيش التحرير الفلسطيني ورجال المقاومة المحليين في محاولة للم شتاتهم المبعثرة... وفي كل الأحوال.. أصبحت غير فاعلة.. لأنها لم تعد قادرة على صد العدوان.. الأرشيف يجب ألا يسقط في يد العدو.. لا يجوز أبدا حدوث ذلك.. يجب أن يبحث عن أفضل وسيلة تمنع العدو من السيطرة عليه أو الاستفادة مما يحتويه من ذخائر المعلومات الأمنية.. الوقت يجري.. والعدو يقترب.. و... الحاكم المصري.. لم يعد موجودا.. لقد غادر.. ولا أحد يعلم إلى أين...لكن الخبر المؤكد أنه قد غادر.. هربا... باتجاه الجنوب.. إذن.. المسئول الأول لم يعد موجودا.. لقد غادر مكانه.. وتخلى بذلك عن صلاحياته ومسئولياته تجاه غزة وشعب غزة. لقد غادر الحاكم المسئول.. وبالنسبة للنقيب عادل فهي فرصته لاتخاذ القرار الصائب.. حيث بإمكانه الآن التصرف كفلسطيني حر.. كامل الإرادة.. لقد غادر الحاكم.. حاملا معه أمره بالحفاظ على الأرشيف وحمايته بأي وسيلة ومطلقا في نفس الوقت القيود التي تهين الرجال الأوفياء بقسوة سطوتها المهينة.. وأصبح هو صاحب الأمر الوحيد والقرار المنتظر.. وهو لن يحمي الأرشيف.. فعليه هو النقيب عادل أن يحمي شعبه ووطنه وأن يصون أسراره ومجاهيله.. واجبه الأول التأكد أن الأرشيف لن يصل لأيدي اليهود.. وأنهم لن يتعرفوا أبدا على أي معلومة كانت فيه.. الصورة تتضح أكثر بين لحظة وأخرى.. والتصرف يجب أن يكون سريعا وحاسما.. وهو يدرك أن مبنى السرايا الحكومي سيكون الهدف الأول الذي يضع اليهود أقدامه فيه.. لأنهم يعلمون أن قيادة قطاع غزة وشئونها كلها، تنطلق من هذا الموقع الحيوي.. الأخبار تتسارع، قوات العدو دخلت حدود المدينة.. وهم يتقدمون ببطء وثبات.. لقد أكملوا سيطرتهم على شرقي غزة.. ويتحركون الآن نحو قلبها.. نحو قلبها.. والقلب هو.. السرايا.. لم يعد مجال للتردد.. لقد أعد كل شيء مسبقا قبل أن يأتي صباحا للأرشيف ويستقر فيه.. اتخذ القرار صورته النهائية في رأسه.. وبقي التنفيذ.. فليفعلها إذن.. و.... بدأ يفتح جالونات الكاز والبنزين... ودار داخل الأرشيف يصبهما في كل مكان وفي جميع الغرف الخاصة به.. يريد أن ينتهي الأمر فورا.. لا يجب أن يظل ملف واحد حيا يمكن الاستفادة منه من قبل العدو.. الحريق يجب أن يكون كبيرا وشاملا وقاضيا وسريعا ومتأججا جدا.. ليقضي على كل معلومة.. عشر جالونات كاملة صبها وحده.. لم يكن معه أحد.. لقد صرفهم جميعا.. وبقي وحده.. لينفذ مهمته الأخيرة في حماية شعبه ووطنه... ومن بعيد أطلق رصاصات مسدسه على الأرشيف.. واندلعت النار... واحترق الأرشيف كله.. لم يبق أثر لملف واحد.. وعندما وصل إلى بيته.. حمد الله كثيرا.. فقد استطاع في اللحظات الأخيرة أن ينجز عملا.. لقد دمر تاريخا كاملا من عمل الأمن.. وبالرغم من ذلك فهو يشعر بالراحة الآن.. فقد كتب الآن السطر الأول في التاريخ الجديد لغزة. 7/3/2010
| |
|