تناهيد عضو ماسي
عدد المساهمات : 323
تاريخ التسجيل : 14/08/2010
| موضوع: شجرة الليمون الإثنين سبتمبر 27, 2010 4:37 pm | |
| شجرة الليمون
عدنان كنفاني
أشجار الليمون لا تعيش إلا في المناطق الدافئة التي لا تتعرّض للصقيع. لكن أبا عبد الرحمن الخال سخر من الجميع، وكان عليه أن يتحمّل مشاق السفر إلى يافا ليشتري بمعرفة صديقه (أبو غازي) اليافاوي كيساً من النايلون الأسود بحجم قبضة اليد يحتوي على قليل من التراب تطل من وسطه غرسة رفيعة لا يتعدى ارتفاع ساقها سنتمترات قليلة عليها أربع وريقات خضراء. ـ جذر مشمش مطعّم ببرعم ليمونة بلديّة يا أبا عبد الرحمن. يعرف أنه جذر صامد، يقاوم الحشرات المتطفّلة ويتصدّى للطفيليات أكثر من جذور الأشجار الأخرى، يمكن للجذع أن ينمو بسرعة أكبر لو تهيأت له تربة بِكْر خفيفة ليتحرك الجذر بسرعة وكيف يشاء. ـ إياك أن تعرّضها شتاءً للريح الغربية التي تحمل في هبّاتها حبيبات الصقيع. حمَلَها بحرص شديد، حفر لها حفرة مناسبة في زاوية حاكورة داره بين جدارين مرتفعين يحيطان بها يصدّان عنها رياح الغرب والشمال. عندما بدأ في حفر حفرة عميقة لتستقبل شجرته الصغيرة، اكتشف أن تربة قريته متماسكة قاسية، خرج إلى التل القريب المشرف على قريته من جهة الشمال، وحمل من تربة سفحه الخفيفة ما يكفي لطمر الحفرة بعد أن وضع في أسفلها بعض حجارة صغيرة ملساء.
* * * ثمة من يعتقد أن حمدان والأستاذ بركات باعا نفسيهما لليهود، كان حمدان يتسلّل خفية ويدخل إلى القرى المحتلّة عبر ثغرة فتحها في الأسلاك الشائكة المتينة، لكنّه بعد أن تعرّف بأيام معدودات على بركات الأستاذ في مدرسة برقين الابتدائية صار يروح ويغدو دون أن يعترضه أحد إلى قريته وإلى القرى القريبة والبعيدة من الحدود التي رسمتها آخر شاحنة جنود وصلت إليها، وقشّت سكانها إلى خارج خط مرسوم عمّدته بالأسلاك والحراسات، منهم من أخرج قسراً، ومنهم من هرب خوفاً من الموت. يومها جمّعوا أكثر من عشرة شباب من زينة أهل قريته، أوقفوهم صفّاً أمام حائط المدرسة الابتدائية الوحيدة في القرية، ثم أدار ضابط أشقر وجهه ورفع يده إلى فوق وأنزلها بسرعة في إشارة واضحة لأكثر من عشرة جنود أيضاً يقفون قبالة الشباب يوجّهون بنادقهم إليهم.. كان يبتسم بلؤم، والجنود المدجّجون يطلقون الرصاص بغزارة، تهاوت أرجل الشباب كعيدان قصب تكسّرت تحت هبّة ريح عاتية، واصطبغت وجوههم وصدورهم وحائط المدرسة والأرض من تحتهم بلون دمائهم الحمراء القانية. ولولت النساء، وتزاحم الرجّال يحملون أطفالهم وبعض متاع لهم وراحوا يركضون، لا يلوون على شيء سوى النجاة من حمّى الموت، تلاحقهم رشقات رصاص مجنونة لم تتوقّف حتى اطمأنت بأنهم خرجوا وراء الخط المرسوم. صارت بيوتهم، وهي تقع على مرمى قلوبهم وأسماعهم محرّمة عليهم، يراقبون عائلات يهودية تأتي محمولة في حافلات وشاحنات أنيقة تسكنها ولا يستطيعون إلا إطلاق زفرات الحسرة. مريم الصمّاء الخرساء لم تغادر بيتها، لم تكن تسمع أصوات القنابل والرصاص، ولا أصوات الناس المرعوبة، وهي تقف وحيدة في فناء الدار وراء سخونة التنّور منهمكة في خبز العجين عندما حدث ما حدث وهرب الجميع، وساعة حان وقت الغداء لم تجد من أهلها أحداً، خرجت تبحث عنهم.. بيت شقيقها أبي عبد الرحمن الخال إلى جانب بيتها، يفصل بينهما حائط مرتفع يقسم الحاكورة التي ورثاها عن أبيهما إلى شطرين، بيوت أقاربها بالجوار. حشرجت، فتّشت، ولم يجبها أحد، كانت الحدود تُرسم، وهي جالسة على بوّابة بيتها حائرة واجمة لا تعرف غير الانتظار.
* * * سبعة أيام بلياليها وأبو عبد الرحمن الخال يصارع سكرات الموت، ساعة يغيب فيحسبونه قضى إلا من نبضات ضعيفة لم يتوقف قلبه عن إرسالها، ولحظات يصحو فيحسبونه عاد إلى الحياة أقوى مما كان.
* * * ثلاث سنوات وشجرة الليمون صامدة، كان الخال يرعاها بكل جوارحه، يفتش كل صباح عن برعم جديد يتعلّق طرف غصن يتفتق عن وريقة صغيرة فيستبشر. يصحو في ليالي الشتاء الباردة، حين تكون الريح ساكنة، والسماء صافية، يعرف أن موجة صقيع ستأتي مع تباشير الفجر، يشعل حطبات في صفيحة، ويسندها إلى جذع الليمونة تمدّها بالدفء، وتدفع عنها الغازي القاتل. ـ حمدان.. ويضيع الصوت في طيّات موجة سعال جديدة. مسجى على فراش في زاوية غرفة معتمة لا يجد نور النهار طريقاً إليها إلا إذا فُتحت النافذة الوحيدة المصفّحة بالتنك، ولم تكن أم عبد الرحمن لتفعل ذلك إلا نادراً. أكوام الفضلات القريبة من باب البيت، تتسرّب منها، وترسل روائحها الكريهة تنشرها في أركان الغرفة فتصير كأنها زريبة حيوانات، والرجل النحيل يفترش الأرض، وستين سنة من عمره، ويلتحف بأسمال جمّعت من بقايا أثواب مهترئة، يصحو بين لحظة وأخرى على حشرجة سعال جاف متواصل لا يتوقّف حتى يرتشق من حلقه رذاذ أحمر ينقضّ بقعاً صارخة الألوان تبعث روحاً حيّة في زحمة الألوان المنثورة على الملاءة المزركشة، تسرع أم عبد الرحمن تساعده على الجلوس، تضرب ظهره بقبضة يدها المرّة تلو المرّة فيستريح لحظات تكفي ليلتقط أنفاسه، ينحسر الاحتقان الأزرق شيئاً فشيئاً، ويستعيد وجهه لون الحياة. ـ سأموت في ضحى يوم من الأيام. ـ وَحِّدِ اللهَ يا رجُل. ـ لو يأخذني حمدان إلى بيتي أموت فيه. ـ يا خال ما الفرق.؟ هناك فلسطين، وهنا فلسطين.. ـ الأرض تفرق بالشبر يا خال. كان حمدان يختفي من زواريب المخيم أياماً، يحسبونه من فرط حماسه ذهب ليتطوّع في جيش ما بعد أن طوى جيش الإنقاذ والجيش العراقي والمصري والأردني رحالهم ومضوا، ثم يظهر فجأة، يرتدي قميصاً نظيفاً، وحذاءً لامعاً، ويدخّن سجائر أجنبية، يتمشّى متبختراً، يوزّع ابتسامات على كل من يقابله، وهو يمضي إلى بيت الخال في آخر المخيم. ـ مريم بخير يا خال. ـ والليمونة يا حمدان.؟ ـ الليمونة.!؟ ومن يذكر شجرة ليمون.؟ يغمض الخال عينيه، تبرز ابتسامة فاترة على طرف شفتيه. ـ مريم بخير، مريم بخير، لا أحد يذكر الليمونة.! يشدّ على جفنيه بقوّة. ـ هل تساقطت رطبها.؟ لماذا يتأخر الليمون عن إطلاق ثماره.؟
يعود الاحتقان يصبغ أطراف وجهه، فتنحبس الكلمات متوتّرة في صدره. ـ ستبقى روحي معلّقة على طرفيّ رئتيّ المهترئتين، أعرف أنها لن تفارقني حتى تطمئن إلى سكن جسدي في تراب الحاكورة. ـ الحاكورة بعيدة يا خال.! تبدأ وصلة سعال جديدة، يفتح عينيه بألم فتنسلّ دمعة تتعلّق على طرف شاربه الكثّ. ـ لو أضع رأسي على حفنة من تراب الحاكورة سأرتاح من هذا العذاب،
* * * انتظر حمدان حتى حلّ الظلام، كانت مريم تسوّي الشاي عندما انسل بهدوء، تسلّق الجدار الذي يفصل بين بيتها وحاكورة بيت أبي عبد الرحمن، بعد أن اطمأن أن محتلّيه الجدد خرجوا للاحتفال بأمسية يوم السبت، وسقط في الفناء الذي يعرفه جيّداً، اقترب بخطوات حذرة من حوض شجرة الليمون، كانت منتصبة بشموخ، وهي ميّتة جافّة تتزيّن بعريها. أخرج من جيبه خشبة قصيرة حادّة، غرزها مرّات ومرّات في التراب اليابس، وغرف حفنات وضعها في كيس علّقه على زنّاره، وعاد من حيث أتى. يحمل في كل أسبوع من هناك رزمة ملفوفة بعناية، ومربوطة بخيط ثخين، لا يعرف على ماذا تحتوي، ويوم سأل الأستاذ بركات عنها، وهو يسلّمها له مقابل دنانير قليلة يدفعها إليه كلما أتى بها، قال له بهدوء: ـ صحف ومجلات. ضحك كثيراً، لم يكن يتصوّر أن يتقاضى أجراً عن عمل لا يستحق العناء، أن يحضر صحف ومجلاّت عبرية، ويقطع بها الحدود ليسلّمها إلى الأستاذ بركات أمر فيه غرابة.! بعد أسابيع قليلة ألقت دورية من الجنود القبض عليه متسللاً في طريق عودته، واللفافة تحت إبطه، ساقوه إلى الضابط. فتّشوه جيداً، لم يجدوا معه غير تلك اللفافة، وحين فكّها الضابط وعرف ما فيها ضحك هو الآخر حتى كاد يفقد بريق أسنانه: ـ صحف ومجلاّت عبرية خمدان.؟! كويس، عشان تعرفوا إيش إخنا بنساوي.. فتح الخال عينيه، رفع رأسه بإعياء كانت خيوط الضحى محمولة على بريق شمس الصباح تتسرب من شقوق النافذة، دسّ بيده المتعبة كيس التراب تحت رأسه ودفن وجهه فيه، بدا أنه يأخذ أعمق نفس أخذه في حياته قبل أن يبدأ وصلة سعال حادّة لم تتوقف حتى انبثق من حلقه دم غزير اختلط في هذه المرّة مع تراب شجرة الليمون الذي استقبل بوفاء وفرح ابتسامته العريضة، وصمت سعاله الأبدي. | |
|