سليمان بشارات
بسام بدران" مواطن فلسطيني، من سكان مدينة طولكرم، ولد في النصف الثاني لعام 1948، والرجل صاحب حكاية طويلة في المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولكن مقاومته لم تأخذ شكل البندقية أو الحجر أو حتى القيام بعملية استشهادية، ولكنها أخذت شكلا جديدا وفريدا؛ إذ قاوم المحاولات الإسرائيلية لتغيب ذاكرة الشعب الفلسطيني من خلال إنشاء متحف في منزله جمع فيه الكثير من المقتنيات عن التراث الفلسطيني، معتبرا أن ما قام به هو حماية للذاكرة الفلسطينية ستستفيد منه الأجيال القادمة. وقد احتوى "متحف بدران" على مقتنيات كثيرة ومتنوعة وقطع تروى حكايات عن الماضي الذي لم يمض. إثبات الحقيقة ونحن نتسلق درجات منزل بدران "المنزل المتحف" بهدوء وترقب، ينفتح لنا باب على صالة كبيرة فرشت أرضها وجدرانها بمئات من القطع الأثرية من أوراق نقدية لعملات فلسطينية استخدمت في عصور مختلفة، وسندات بيع وشراء لشركات امتلكها فلسطينيون في حيفا ونابلس، وعشرات الأواني النحاسية والحجرية التي اعتمد عليها الفلسطيني في حياته عبر سنين مضت. رحب "بدران" بـ"إسلام أون لاين.نت" بعبارات مبهجة ليضيف عليها بعد نفس عميق: "قد يظن البعض أنني باحث عن الشهرة... لو أردت هذا لسعيت لها منذ عام 1972 عندما وضعت أول قطعة أثرية في منزلي لتكون حجر أساس لهذا المتحف، تلك القطعة كانت عبارة عن شمعدان (فانوس) اشترته والدتي يوم زفافها في عام 1943 وبقيت محتفظة فيه". يتجول بنظراته متابعا: "أردت إثبات الحقيقة؛ فلسطين أرض لشعب عاش فيها منذ مئات السنين". ثم يبدأ بتقليب صفحات كثيرة لسندات قبض وأخرى لعقود بيع وشراء وقعت بأسماء شخصيات فلسطينية وحملت أسماء شركات فلسطينية -أيضا- وكأنه يريد أن يقول إنه عندما احتُلت فلسطين وهُجر جزء من أهلها كانت هناك عشرات المؤسسات الفلسطينية تعمل وتدير التجارة والموانئ في حيفا ويافا؛ ففلسطين هي وطن مؤسساتي حتى قبل قدوم الاحتلال عليه. وفي زاوية خصصت للوثائق الورقية، تلفت انتباهك شهادة علمية داخل برواز تحمل اسم مدير التربية والتعليم في مدينة طولكرم، وموقعة باسم دائرة المعارف الفلسطينية في القدس التابعة لحكومة فلسطين آنذاك، وفي أسفلها حملت تاريخ منحها وهو العام 1930م، ويصفها بدران بأنها شهادة تدلل على أن الشعب الفلسطيني كان منذ زمن بعيد متعلما ولديه المؤسسات والمعاهد العلمية. ثم يمسك "بدران" بوثيقة أخرى تحمل عبارة إيصال دفع لأحد الأطفال المنتسبين لرياض أطفال ليضيف: "كان عندنا أيضا رياض أطفال، وكنا حريصين على تعليم أطفالنا منذ الصغر". ثمة أكوام كثيرة من شهادات الميلاد وسندات أرض، وشيكات، وأوراق تحمل البرنامج العام لإذاعة القدس التي كان يتلهف الفلسطيني لسماع برامجها، كلها أوراق أصلية بشهادة لونها الذي يحكي قصة ألم ومعاناة طويلة. الخاتم الأزرق يستخرج بدران بطاقتي هوية إحداها لفلسطيني وأخرى لامرأة يهودية ويقول "انظر لكليهما، لا فرق ظاهريا بينهما من حيث الشكل.. لكن بطاقة الفلسطيني مختومة بخاتم أزرق كتب عليه بالإنجليزية إن هذه الوثيقة لا تعطي حاملها الشرعية بالمواطنة في فلسطين، بينما لا يوجد ذلك على بطاقة الهوية اليهودية". هذا الخاتم -كما يضيف بدران- "جزء من عمليات تمهيد لسيطرة اليهود على فلسطين من خلال تفريغها من سكانها بفعل الانتداب البريطاني". ثم أخرج "بدران" من صندوق زجاجي مجموعة من جوازات السفر التي استخدمها الفلسطينيون في تنقلاتهم بين الدول العربية للتجارة. ويقول: "هل كان أحد يتخيل أنه كان يوجد في فلسطين قبل عام 1948 قنصليات وسفارات عربية..." ليعرض علينا مجموعة من جوازات السفر لفلسطينيين أصدرها المندوب السامي البريطاني، وتحمل على صفحاتها أختام وتواقيع القنصلية العامة للجمهورية السورية، والمملكة الأردنية الهاشمية بالقدس، والقنصلية اللبنانية في يافا قبل عام 1947 أيضا". ثم أشار إلى مجموعة جوازات مؤكدا على كثرة أنواع الجوازات التي حصل عليها الفلسطيني؛ فهذا جواز سفر منذ زمن الانتداب البريطاني صدر باسم حكومة المندوب السامي، وجواز سفر أردني خاص بسكان الضفة الغربية، وجواز سفر مصري لسكان قطاع غزة. قطع تحكي الماضي وفي زاوية أخرى من زوايا المتحف يوجد عشرات المجموعات من الحلي والمجوهرات وأدوات الزينة التي تعودت المرأة الفلسطينية على لبسها بأفراحها ومناسباتها السعيدة.. وقد أخرج بدران قلادة قائلا: "هذه القلادة والعصبة (توضع على الجبين) مثلت للمرأة الفلسطينية ادخارا وزينة في وقت واحد، تستخدمها في المناسبات السعيدة تعبيرا عن الفرح، كما تستخدمها في شراء مستلزمات البيت إذا ما نفدت النقود منه، فهي مرصعة بالذهب العصملي، والحميدي والرشادي". وبدران في عرضه للحلي والقلائد المتناثرة يسجل أمام الزوار تاريخ فلسطين الريفي والزراعي؛ فالطابع الريفي للمرأة الفلسطينية جعلها تتميز بحليها عن باقي النساء في ذاك العصر، والمرأة الغنية عنيت بالحلي المرصعة بالذهب، فيما عنيت المرأة الفقيرة بالفضة. ثم يذهب بنا لمكان آخر ليذكرنا بالمثل الشعبي الذي يقول: "سبعين في البيت.. القمح والزيت"، ويضيف: "هذا المثل يحاكي نمط حياة أجدادنا الذين اعتمدوا على زيت الزيتون والقمح كأساس لحياتهم". ليعرض علينا سراج زيت صنع من الفخار واستخدم في إنارة البيت من خلال إشعال الفتيل المغمور بزيت الزيتون ليمنح إنارة صافية وقوية. ويضيف بعد أن أشعل بدران السراج الفخاري: "هناك فرق كبير بين سراج الزيت وسراج الكاز (الكيروسين)؛ الأول شعلته صافية ولا تحمل الدخان الأسود، أما الثاني فضوؤه أقل ويصاحبه دخان أسود". صناعة وتصدير وفي ركن آخر أطلق عليه "زاوية الإضاءة" جمع بدران عشرات من الفوانيس والقناديل إضافة إلى مصابيح الكاز التي استخدمت في إنارة شوارع المدن الفلسطينية قديما. ومن بينها يستخرج بدران إشارة ضوئية تعمل بالزيت استخدمها مشرف محطة قطار في مدينة طولكرم قبل عام 48، ويستذكر فيها كيف كان القطار ينطلق من العاصمة التركية إستانبول ليمر عبر سوريا ولبنان ثم يصل فلسطين ويفرغ ما حمل معه من بضاعة، ليأخذ في طريقه إلى مصر منتجات من الأرض الفلسطينية؛ كالبرتقال اليافوي، والبطيخ، ممثلا بذلك أبسط عملية للاستيراد والتصدير عاشتها فلسطين آنذاك. ولا تكاد تخرج من زحمة القطع النحاسية والفخارية المنتشرة حتى تدخل في زاوية أخرى تحمل معاني القوة والصبر؛ حيث ينتقل بنا بدران شارحا بعض الأدوات التي نحتها الفلاح الفلسطيني من الصخر لتستخدم في عصر الزيت من الزيتون. فهذه صخرة كبيرة مجوفة على شكل حوض، خشنة السطح، تعلوها كرة قريبة إلى الدائرة منحوتة هي الأخرى من الصخر.. هذه هي "درّاسة الزيتون" قديما. وإلى جانب "درّاسة الزيتون" نجد لوح "درس القمح" الذي يتشكل من ألواح الخشب المرصوصة مع بعضها البعض ومشدودة بعدد من الأسلاك المعدنية، وينغرس في أسفلها حجارة بازلتية صغيرة، وعلى أحد جوانبها تمتد قطعتين من الحديد المربوطتين بحبلين. يقف بدران بين لوح درس القمح ودراسة الزيتون وكأنه يريد أخذ صورة ويقول: "هذه أدوات بسيطة وقديمة يعرضها الإسرائيليون في مجلاتهم وكتب توثيقهم على أنها من تراث أجدادهم". قطع رمزية معان كثيرة يحملها شجر الزيتون في فلسطين، فيما تشكل الزيتونة الرومية حكاية حياة يتبادل فيها أجدادنا الخلافة في رعايتها؛ لتتعدى مكانتها مجرد العلاقة الوجدانية العاطفية لترتبط بمعنى الصمود والبقاء والمقاومة؛ وهو ما جعل الاحتلال في كثير من الأحيان يستهدفها لمحو تاريخها ورمزيتها. وبدران، صاحب المتحف، والذي كان شاهدا على جرائم اقتلاع أشجار الزيتون قرر أن يحفر من خشبها مقاعد يتلمسها كل من يزور المتحف. وفي نوفمبر 1989 زار ألمانيا، وفي أثناء تجوله بأحد متاحفها وجدهم يبيعون قطعا صغيرة من جدار برلين. فيقول: "اشتريت واحدة بـ 6 دولارات، واليوم يبني الاحتلال جدارا آخر على أرضنا قضى على مئات الآلاف من أشجار الزيتون، ففكرت في جعل هذه الأشجار شاهدا يؤرخ للإرهاب الصهيوني، فعملت على تجميع ما أقدر عليه من سيقان شجر الزيتون لأحولها إلى قطع رمزية". حلم القرية بعد جولة في المتحف يدعوك بدران لارتشاف كوب من الشاي الساخن في مكان مخصص لذلك يسميه بـ"الديوان العربي"؛ لتشعر أنك في جو آخر حيث المساند العربية، والفرش المغطى بقطع من القماش المحلى بالرسوم المطرزة والمنسوجة من الصوف، وجدران موشومة بقطع الثياب الفلسطينية، وأدوات فنية وموسيقية تراثية. يقول بدران: "أعرض التراث الفلسطيني، وهو الشيء الإنساني الذي لا يمكن أن يُزيف، هو يُحاكي الواقع...، ليس بالضرورة أن أتكلم ما دام هناك ما يجسد كلامي من حقائق ملموسة يمكن تلمسها". ويسعى بدران إلى أن يجعل من متحفه قرية تراثية تجعل من يدخلها يعيش الجو الفلسطيني التاريخي كاملا، ولتحقيق هذا الهدف لم يكتف بالأماني فقد قام باقتناء أرض مساحتها 14 ألف متر مربع تطل على مدينة طولكرم ونابلس وأم خالد (تعرف بنتانيا حاليا) وحيفا. وبمجرد وداعه تشعر أنك أصبحت الآن تعرف فلسطين أكثر، ليسرع بدران قائلا بلهفة: "إذا كنت مارا من هنا يوما، فلا تبخل بالزيارة أنت ومن كان معك". * إسلام أون لاين
|