مقبرة مأمن الله في القدس المحتلة.. تاريخ عريق واعتداء صهيوني متواصل
رام الله –خاص
إن الكتابة عن تاريخ القدس أو جزء منها ، إنما هو حديث عن مسيرة البشرية وحضارتها ، فالقدس مدينة عظيمة لا لموقعها الجغرافي أو لطيب هوائها أو لعذوبة مياهها ، وإنما لعظمة قدسية هذه المدينة في نفوس بني البشر ، وهذه المدينة وإن قسي عليها الزمن سابقاً وحاضراً ، فإنه لا يدوم فيها ظالم ولا يعمّر فيها جائر ، فهي مدينة السلام ، يشع نور قدسيتها في أرجاء الكون معيداً ذكرى أنبياء طلبوا ثراها وشهداء سالت دماؤهم فوق روابيها ، وعلماء نشروا العلم في جميع الأركان من بين أزقتها ومساجدها .
ونحن المسلمون ومنذ وطأت البراق أرض بيت المقدس وأسرى في تلك الليلة بمعلم البشرية وهاديها رسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام مشيراً بذلك منذ تلك اللحظة بأن هذه المدينة المقدسة التي باركها الله وما حولها هي مدينة إسلامية سيكون لها شأن عظيم في تاريخ هذا الدين ومسيرة هذه الأمة ، وهكذا كان ، فمنذ فتحها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عاشت في كثير من عصورها أيام مجد وعز في ظل دولة المسلمين ، فما من والٍ أو حاكم إلاّ وكانت القدس كالقلب للجسد بالنسبة له ، كرموا وأعزوا أهلها ، وشادوا بيوت العلم في جميع أركانها .
وتدور عجلة الزمان ويتكالب الباطل على المدينة المقدسة من كل حدب وصوب ، وتعود أيام الصليبيين بوحشية هولاكو وجنكزخان.
فمنذ وقعت القدس تحت الاحتلال (الإسرائيلي) تعيش حالة عصيبة ، فالاحتلال يعمل جاهدا على طمس كل أثر إسلامي في هذه المدينة المقدسة بشتى الوسائل والطرق ، وكانت وحشية الاحتلال أن امتدت يده الغاشمة إلى قبور المسلمين حقد وصلافة ، تكاد تفوق كل التصورات، فكانت الاعتداءات المتكررة على المقبرة الشهيرة في بيت المقدس ألا وهي مقبرة " مأمن الله " هذه المقبرة والأرض الوقفية التي تقع في ظاهر بيت المقدس من جهة الغرب ، حباها الله بالتكريم بأن ضمت بين أحضانها المباركة رفات بعض صحابة رسول الله r وشهداء هذه الأمة الذين طيبّوا ثراها بدمائهم دفاعا عن قدسيتها وإسلاميتها ، وعلماء أضاءوا بعلمهم مشارق الدنيا ومغاربها ، فهذه المقبرة وما تحويه من علماء هذه الأمة هي جزء من تاريخ أمتنا عبر العصور من زمن الفاروق عمر – رضي الله عنه – مرورا بشهداء الفتح الصلاحي وحتى آخر شهيد دفن فيها دفاعاً عن قدسيتها وإسلاميتها .
إعلان بعض الصحف العبرية الأسبوع الماضي نية الحكومة (الإسرائيلية) افتتاح مقر ما يسمى بمركز الكرامة الإنساني "متحف التسامح في مدينة القدس " على أرض مقبرة " مأمن الله " بمشاركة حاكم ولاية كاليفورنيا الأمريكية ، وردود الفعل والاستنكارات لهذا الاعتداء وتواصل تدنيس هذه المقبرة يوجب إلقاء الضوء والحديث مجددا عن هذه المقبرة ذات التاريخ العريق .
الموقع والمساحة:
تقع مقبرة " مأمن الله " والتي يسميها البعض " ماملا " - بمعنى ماء من الله أو بركة من الله – غربي مدينة القدس القديمة وعلى بعد كيلومترين من باب الخليل ، وهي من أكبر المقابر الإسلامية في بيت المقدس وتقدر مساحتها " بمائتي دونم " بينما قدرها المهندسون بتاريخ 16/4/1929 بـِ ( 137.450.29م2) أي بنحو 137 دونما ونصف ، علما أنه استثنى منها بناية الأوقاف التي كانت مبنية على جزء من أرض وقفها ، ومقبرة الجبالية التي كانت على القندرية ، والتي يفصلها عن المقبرة الشارع ،وعندما سجلت المقبرة في سجلات دائرة الأراضي – الطابو- بتاريخ 22/3/1938 سجلت مساحتها (134.560) من الدونمات واستصدر بها وثيقة تسجيل أراضي " كوشان طابو " ضمن أراضي الوقف الإسلامي.
في عمق التاريخ ...
ذكر صاحب المفصل في تاريخ القدس " عارف عارف " أن مقبرة " مأمن الله " أو " ماملا " وإن اختلف في مصدر اسمها فإنها بلا مراء أقدم مقابر القدس عهدا وأوسعها حجما ، وأكبرها شهرة ولقد ساير تاريخها تاريخ المدينة ، وذكر معه مرارا، ففي هذا المكان مسح سليمان ملكا ( 1015ق.م ) وفيه عسكر " سنحارليب " ملك الآشوريين عندما هبط القدس ( 710 ق.م ) ، وفيه ألقي ألقى الفرس بجثث القتلى من سكان المدينة عندما احتلوّها (614ب.م)، وفيه دفن عدد كبير من الصحابة والمجاهدين أثناء الفتح الإسلامي (636ب.م) وفيه عسكر صلاح الدين يوم جاء ليسترد القدس من الصليبيين ( 1187ب.م) .
وقد تكلم أكثر من واحد أن مقبرة " مأمن الله " تحتضن في ثرى جنباتها رفات الصحابة أمثال " عبادة بن صامت"، وقد ذكر المقبرة النابلسي في رحلته فقال : " إنها بظاهر القدس من جهة الغرب ، أكبر مقابر البلد ، وفيها خلق كثير من الأكابر والأعيان والشهداء والصالحين وفيها عدد كبير من الصحابة والتابعين " .
ورجّح بعضهم أن تاريخ الدفن الإسلامي فيها يعود إلى ما قبل الصليبيين ، وعندما احتل الصليبيون القدس وارتكبوا فيها مجزرة بشعة حيث قدر عدد الشهداء في هذه المجزرة من الرجال والنساء والأطفال بـِ(70.000) شهيد ، أمر الصليبيون من بقي من المسلمين بدفن الشهداء في مقبرة " مأمن الله " وقد وجدوا بها مقابر وأنفاق ، فوضعوا جماجم الشهداء فيها ، وقيل أن نفقا لا يزال تحت الأرض في الوسط الغربي من المقبرة كله مليء بالجماجم وأن قطره نحو خمسة أمتار وله امتداد أكثر من مائة متر – والله اعلم - .
وعندما حرر السلطان صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله – القدس من يد الصليبيين أمر بدفن من استشهدوا في المعارك مع الصليبيين في نفس المقبرة ، وتوالى الدفن فيها بعدئذ فضمت قبور مئات العلماء والفقهاء والأدباء والأعيان والحكام من المدينة ، والمعروف في التاريخ أن كثيرين من العلماء كانوا يحملون في القاهرة كي يدفنوا فيها، وعلى العموم فإن مقبرة " مأمن الله " تأوي رفات أكثر من سبعين ألفا بين صحابي وشهيد وعالم وزاهد منهم :
1- الأمير عيسى بن محمد العكاري الشافعي : هو أحد كبار مستشاري السلطان صلاح الدين الأيوبي وقد توفي - رحمه الله – عام 585هـ بمنـزله في الخروبة – قرب عكا – وحمل الى القدس الشريف ودفن في مقبرة " مأمن الله " .
2- الشيخ شهاب الدين " ابو العباس " 684هـ 728هـ " هو أحمد بن الشيخ محمد بن عبد الولي بن جبارة المقدسي الشافعي ، الفقيه والنحوي .
3- أحمد بن محمد حامد بن أحمد الأنصاري المقدسي الشافعي ، حفظ القرآن الكريم واشتغل بالتحصيل والسماع ، عرض عليه قضاء القدس فأبى وكان صالحا زاهدا ناسكا ،قانعا بالقليل ، توفي في عام 854هـ .
4- قاضي القضاة شيخ الإسلام محمد بن جمال الدين بن سعد بن أبي بكر بن الديري العبسي الحنفي – ولد في حردا بالقرب من " مدينة نابلس " في حدود عام 750هـ وسكن بيت المقدس وصار من أعيان العلماء، كان فقيها ومدرسا، ولاه الملك المؤيد قضاء الديار المصرية ، ثم صرف عن القضاء باختياره ، واعتذر بعلو سنه ، وكان يتأسف على فراق بيت المقدس لكونه في مصر حيث كان يقول :" سكنته أكثر من خمسين سنة ثم أموت في غيره " ولكن في عام 827هـ قدم إلى القدس لتمضية شهر رمضان فيها وزيارة أهله ، وبينما هو يهم في الرجوع إلى مصر وبعد أن أخذ يودع القدس وأهلها ، فإذا بالموت يدركه فيتوفى – رحمه الله – في القدس كما أحب ، ودفن في " مقبرة مأمن الله " .
محطات من التاريخ المعاصر :
أحيطت المقبرة في أواخر العهد العثماني بسور عام 1318هـ وأستمر المسلمون في دفن موتاهم حتى عام 1927م حيث أصدر المجلس الإسلامي الأعلى حظرا على دفن الموتى فيها بسبب اكتظاظها واقتراب العمران إليها ، وقام المجلس الإسلامي الأعلى أيام الانتداب البريطاني على فلسطين بترميمات متكررة لسور المقبرة وغرفة الحارس وتسوية منخفضات وخصوصا تعبئة حفر المحجر بالتراب ، ثم رغبة الأوقاف في تمهيد مساحة 150 متر في أرض مقبرة "مأمن الله " الجهة الغربية الشمالية وإزالة الضرر الناتج عن المياه المتسربة من البركة ، وقلع الأعشاب وزرع الأشجار على جانبي الطرق داخل المقبرة ، ومنع الاعتداءات على اختلاف أنواعها مما فيه رفع الضرر عنها والمحافظة على حرمتها.
ويبدو أن كل المشاريع التي صممت في عهد الانتداب البريطاني كانت تحمل في ظاهرها صيغة الاعتناء والمحافظة العينية الجمالية لمقبرة " مأمن الله " لكنها في باطنها – علم ذلك أم لم يعلم – كانت تحمل هدفا أساسيا ، تقوم عليه تلك التصاميم والمشاريع وهو إزالة مقبرة " مأمن الله " عن الوجود ، كمنطقة دخلت طريق الازدهار العمراني والصناعي والسكني ، فمقبرة " مأمن الله " كأثر إسلامي له حرمته ، تشكل بمساحتها التي تزيد عن 150 دونماً تقوم حائلة دون " الاستفادة" من هذه المساحة الشاسعة وسط محيط يقع بالحياة .
ولعل المجلس الإسلامي الأعلى لم يتنبه إلى هذه القضية عندما قرر توقيف دفن موتى المسلمين في المقبرة عام 1927م وكذلك قرار دائرة الأوقاف بإقامة عمارة أو نزل على أرض الوقف التابعة لمقبرة " مأمن الله " .
وقد نشأت فكرة إنشاء عمارة على أرض الوقف في " مأمن الله " في بداية السنوات الأولى من العشرينات، وقد راودت هذه الفكرة المسؤولين وقتئذ لأجل الاستفادة من ريعها وتزييد واردات الأوقاف حتى لا تبقى هذه الأرض الثمينة بدون "استفادة" منها .
وقد ظهرت وجهات نظر متباينة بين القبول والرفض لهذه الفكرة ، وفي تاريخ 14/7/1926 وافق قوميون الأبنية على إعطاء الرخصة إلى دائرة الأوقاف للبناء على أرض الجبالية ، وبدأ العمل بهذا النـزل وانتهى العمل منه عام 1929م ، وجعلت العمارة فندقا من الدرجة الأولى وأطلق عليه اسم فندق " بالاس " بإدارة ثابت درويش أحد رجال القدس في تلك الآونة ، ونجح الفندق وصار أشهر فندق في بيت المقدس للسائحين والزوار وخاصة الأمريكان ولكن قيام شركة فندق الملك داوود بعد افتتاحه بقليل ، وبناء ها الفندق الكبير مواجها لبرج أو محراب داوود الذي يحمل اسمه كان يقي على " بالاس" وفي سنة 1933م أعلنت دائرة الأوقاف عرضا لتأجير العمارة ، وعلى أية حال ، فإن عمارة الأوقاف مرت بظروف وملابسات كبيرة كلها دارت حول مصلحة زيادة واردات الأوقاف ، البناية ما زالت قائمة ولم تنل منها أيدي البلى ، وما زالت تحتفظ بجمالها ورونقها ، ويظنّ إنها تستعمل لبعض الدوائر الحكومية الإسرائيلية .
اعتداءات مبكرة على المقبرة :
في زمن الانتداب البريطاني خاصة بداية سنوات الثلاثين تعرضت مقبرة " مأمن الله " لانتهاكات متكررة ، وفي ظل مخطط وضع سنة 1933 م لمقبرة " مأمن الله " وهو في جوهره يقتطع جزءا للبناء السكني وآخر للبناء التجاري ، وثالث يكون حديقة عامة ورابعا يبقى مقبرة ، إلا أن الجزء الأكبر من هذا المخطط نفذ في أواخر سنوات الستين وما بعدها .
بتاريخ 6/7/1935 كتب مدير الأوقاف العام إلى مأمور أوقاف القدس يقول :" أخبرنا أناس ، أن اليهود يلقون بأنقاض أبنية لهم في تربة "مأمن الله " ، فأرجو أن ترسلوا من يتحقق من الأمر وأن تمنعوا المعتدين إذا كان الخبر صحيحا ، وان تعلمونا بالنتيجة " .
بتاريخ 15/7/1937 كتب مأمور أوقاف القدس إلى مفتش صحة بلدية القدس – وكانت تحت الانتداب البريطاني آنذاك ، الذي كان يعين أعضائها ويشرف عليها ، "علمنا من أن مواسير مياه قذرة ممدودة في الطريق العام وتصب في مقبرة "مأمن الله " بصورة مخفية ، وبعد البحث ، علمنا من ناطور المقبرة أن المواسير المذكورة مربوطة من دار عائلة لأحد اليهود غربي المقبرة ، فنرجو التفضل بالكشف عليها لرفع الضرر وتغيير مجرى المياه عن المقبرة ، حرمة لها " .
بتاريخ 9/12/1937م أصدر وكيل أوقاف القدس إخطاراً لاثنين من عمال بلدية القدس لقيامهم بهدم قسم من سور المقبرة ، جاء فيه " ثبت لدي إنكم هدمتم قسما من سور مقبرة " مأمن الله " وإنكم ألقيتم في المقبرة المذكورة كثيرا من الأنقاض والأوساخ ، وبما أن هذا العمل أضر الأوقاف ، ضررا عظيما ، وبما أنكم بعملكم هذا تعديتم على مصالح الأوقاف ، لذلك فإنني أخطركم برفع الأنقاض والأوساخ التي ألقيتموها داخل المقبرة ، وإذا تأخرتم أو امتنعتم عن ذلك ، فإنني اضطر لمراجعة الطرق القانونية لتغريمكم بكل عطل وضرر أصاب الأوقاف من جراء عملكم هذا .. ".
بتاريخ 13/12/1937 كتب وكيل مأمور أوقاف القدس ،إلى رئيس بلدية القدس ، يقول :" علمت أن احد مهندسي البلدية " أمر عماله بهدم قسم من سور مقبرة " مأمن الله " من الجهة الشمالية وإلقاء أتربة الشارع المجاور في المقبرة ، وبما أن للمقابر حرمة لا يجوز انتهاكها فإنني استغرب جدا ، كيف أباح حضرة المهندس لنفسه انتهاك تلك الحركة ، بدون استئذان دائرة الأوقاف وإعلامها بالأمر ، ولقد جرأ حضرة المهندس بعمله هذا جميع المجاورين ، فأصبحوا يتخذون المقبرة محلا لرمي الأقذار ، وطريقا يمرون منه ويتعدون على قبور الأموات ، لذلك فإني " أوجه نظر سعادتك لهذا الأمر ، راجيا أن تأمروا برفع الأتربة التي ألقيت في المقبرة وبناء السور كما كان ، وتحولوا دون الإقدام على مثل هذا العمل في المستقبل .
في شهر 4/1947 استولى الجيش البريطاني على مقبرة " مأمن الله " وأقام فيها ، كما قام بهدم أجزاء من سور المقبرة ، حيث أرسل حارس المقبرة ، كتابا إلى مأمور أوقاف القدس بتاريخ 4/6/1947 يعلمه فيها بذلك .
نكبة ..احتلال وطمس للمعالم :
وفي عام 1948 احتلت القوات (الإسرائيلية) ، الجزء الغربي من القدس ، فسقطت من ضمنها مقبرة الشهداء والعلماء والصالحين و " مأمن الله " .
وفي نفس العام أقرت (إسرائيل) قانونا بموجبه " يعتبر جميع الأراضي الوقفية الإسلامي وما فيها من مقابر وأضرحة ومقامات ومساجد – بعد الحرب – بأراضي تدعى أملاك الغائبين ، وأن المسؤول عنها يسمى " حارس أملاك الغائبين " وله الحق التصرف بها ، فيما استثنى القانون أملاك الطوائف الأخرى من هذا القانون ، أي حارس أملاك الغائبين يستطيع التصرف فقط بأوقاف المسلمين ، رغم ان هذا التسجيل الخاطئ لا يزيل صفتها الوقفية المقررة بموجب الشريعة الإسلامي، وبذلك دخلت مقبرة "مأمن الله " ضمن أملاك حارس أملاك الغائبين لدى " دائرة أراضي (إسرائيل) " .
ومنذ ذلك التاريخ أصبحت إسرائيل تقوم بتغيير معالم المقبرة وطمس كل اثر فيها ، حتى لم يتبقَ فيها أقل من خمسة بالمئة من القبور التي كانت موجودة فيها ،وقدرت المساحة المتبقية منها بحوالي ثمن المساحة الأصلية أي حوالي 19 دونما .
ففي عام 1967 حولت المؤسسة الإسرائيلية جزءا كبيرا من المقبرة الى حديقة عامة ، دعيت بحديقة الاستقلال ، بعد أن جرفت القبور ونبشت العظام البشرية وقامت بزرع الأشجار والحشائش فيها ، وشقت الطرقات في بعض أقسامها ، كما بني على قسم آخر واشتهرت الحديقة باستعمالها وكرا لممارسة أعمال الرذيلة خاصة من الشاذين اليهود .
وفي أواخر عام 1985م انشات وزارة المواصلات موقفا للسيارات على قسم كبير منها ، ففي كتاب من مساعد مدير الأملاك الوقفية الى مدير الأوقاف جاء فيه :" لقد توجهت بسيارة الأوقاف صباح يوم الاثنين 2/12/1985م لزيارة مقبرة " مأمن الله " في القدس المحتلة ما قبل عام 67 وشاهدت ما يجري في المقبرة ، وبعد التجول في المقبرة سابقا والحديقة العامة حاليا تبين لنا ما يلي :-
أولاً: هناك تغيير واضح وسافر في معالم المقبرة ، حيث أن حوالي 95% من القبور قد نبشت وأقيم عليها بناء .
ثانية : أن القبور المتبقية في المقبرة تستعمل للأعمال غير الأخلاقية ومكان للقمامة .
ثالثاً: أثناء تجوالنا في المقبرة وفي الناحية الشرقية الشمالية شاهدنا جرافات (إسرائيلية) تعمل هناك وقد نبشت جزءا من الجزء المتبقي من المقبرة ، ولدى سؤالي بعض العمال العرب – الذين يعملون هناك – أفادوا بأن الجرافة قد نبشت المقبرة وأخرجت منها بعض عظام الموتى ، وأن الحكومة (الإسرائيلية) تعتزم إقامة موقف للسيارات في منطقة الحفريات .
وفي أعوام 1987،1946،1985 نفذ عمليات جديدة من الحفر لتمديد شبكات مجاري ، وتوسيع موقف السيارات فدمرت عشرات القبور وبعثرت عظام الموتى في كل مكان ورغم احتجاجات المؤسسات الإسلامية ، فان البلدية نفذت مخططها وأجرت الحفريات .
وفي تاريخ 15/1/2000 قامت شركة الكهرباء (الإسرائيلية) بأعمال حفريات في المقبرة ، في الجهة المقابلة بجانب الشارع الرئيسي ، وهو ما تسبب في تناثر عظام الموتى على سطح الأرض ، وذلك بحجة تمديد أسلاك كهرباء في باطن الأرض .
ويستخدم جزء من المقبرة أيضا كمقر رئيس لوزارة التجارة والصناعة (الإسرائيلية).
وما هو جدير بالذكر أن من بين الذين كانوا على رأس تغيير معالم مقبرة " مأمن الله " وساهموا في تحويلها الى موقف للسيارات وحديقة عامة وغيرها وما نتج عن ذلك من نبش للقبور وإزالة لها " رئيس بلدية القدس " تيدي كوليك " .
ويستمر الاعتداء والتطهير العرقي للموتى ...
وإمعانا من المؤسسة (الإسرائيلية) في اعتداءاتها المتواصلة على مقبرة " مأمن الله " فقد أعلنت في 9/2002م نيتها إقامة مبنى للمحاكم (الإسرائيلية) في منطقة مقبرة " مأمن الله " وأكد حينها سماحة الشيخ عكرمة صبري – المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية – أن هذه الخطوة تعتبر حلقة جديدة في سلسلة الاعتداءات على المقدسات الإسلامية واعتبر فضيلته الأمر انتهاكا لحرمة المقبرة وأن المشروع المعلن عنه يمثل امتدادات للاعتداءات التي شملت أجزاء كبيرة من هذه المقبرة ، وأن السلطات (الإسرائيلية) تسعى لمسح المقبرة نهائيا .
والأسبوع الأخير أعلنت الصحف (الإسرائيلية) نية الحكومة (الإسرائيلية) افتتاح مقر ما يسمى " مركز الكرامة الإنساني - متحف التسامح في مدينة القدس " على ما تبقى من أرض مقبرة " مأمن الله " الأمر الذي يؤكد تصميم المؤسسة (الإسرائيلية) إنهاء وجود مقبرة " مأمن الله " .
ولعلنا في نهاية هذا التقرير نشير إلى أهمية الدراسة التي ألفها الباحث الفلسطيني سعيد يقين من جامعة بير زيت بعنوان " الحكومة الصهيونية وخطر التضييق والتزوير الحضاري والتاريخي في منطقة القدس " ، والتي بيُن فيها أن الاعتداءات (الإسرائيلية) لم تمس الأحياء وحدهم بل طالت الأموات في قبورهم ، عارضا أمثلة حية لطمس مقابر المسلمين وإزالة عظامهم ، ونقل سعيد يقين في دراسته تعليق الكتاب (الإسرائيلي) ميرون بنفنسي على هذه السياسة في صحيفة هآرتس (الإسرائيلية) بقوله :" إن هدم المقابر الإسلامية لم ينبع من ضغوط إحتياجات التنمية والمصلحة العامة ، وإنما بهدف مقصده عملية تطهير عرقي للموتى لأن وجود المقابر تلك دليل على ملكية الأقصى" .