كيف يتحدد مصير القدس بعد «الجدار»؟
المدن المسورة لم تعرف قلوبها السعادة أبداً. وها هي القدس تعود ثانية إلى حظيرة هذه المدن، فما بين حرب 1948 وحرب 1967 كان خط الهدنة بين "إسرائيل" والأردن يقسم المدينة إلى غربية يهودية وشرقية عربية. وبعد احتلالها عام 1967 قالت "إسرائيل" إن المدينة الموحدة ستكون عاصمتا الأبدية.
وأما الآن فإن حاجزاً من الأسمنت المسلح والأسلاك الشائكة عاد ثانية وقبل مرور وقت طويل وهو «الجدار الأمني» الذي تقوم "إسرائيل" ببنائه داخل وحول الضفة الغربية المحتلة والذي سوف يقسم القدس
ولكن الجدار الجديد لا يسير بناؤه وفق الحدود القديمة وإنما يبتلع في بطن "إسرائيل" الأحياء الاستيطانية التي أنشأتها "إسرائيل" في القدس الشرقية بعد عام 1967، بالإضافة إلى ابتلاعها معظم المدينة العربية، فعندما يستكمل بناء الجدار وإذا ما أغلقت بواباته فإن القدس الشرقية ستكون مقطوعة تماماً عن بقية أنحاء الضفة الغربية.
القدس تشكل في آن معاً مشكلة في حد ذاتها ورمزاً معنوياً للنزاع الأوسع فهي مشكلة في حد ذاتها لأن العرب واليهود لم يجدوا أي طريقة إما لتقاسمها أو لتقسيمها وفي القدس حال الدين والتاريخ دون العيش فيها بشكل مشترك. فهذه مدينة تتهاوم فيها الأديان والقوميات. فجبل المعبد الذي يعتبره اليهود أقدس الأماكن هو في الحقيقة الحرم القدسي الذي عرج منه محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى السماوات العلا. رغم أن العالم ابتكر حشداً من خطط السلام إلا أنها لم تنجح. فخطط الأمم المتحدة للتقسيم في عام 1947 قالت إن المدينة يجب أن تدول ولكن في عام 1948 فضلت "إسرائيل" والأردن الاحتفاظ بالأجزاء التي احتلتها في الحرب.
وقبل حوالي خمس سنوات أو يزيد وضع بيل كلينتون خطة وفق معاييره لتقسيم المدينة ولكن بدلاً من ذلك وقع نوع آخر من الحرب بصورة الانتفاضة الفلسطينية.
لن يكون هناك سلام في فلسطين إلى أن يتم حل مشكلة القدس فهذه المشكلة بالإضافة إلى مصير اللاجئين الفلسطينيين لعام 1948 تشكلان لب النزاع حقيقة. وإن أية عملية مصممة لفصل "إسرائيل" عن الفلسطينيين لابد وأن تكون حساسة وعويصة والأسوأ يجب أن تمارس منذ البداية في ظل المعرفة بأن الفصل الكامل غير ممكن ففي القدس على الأقل، محتوم على "إسرائيل" وفلسطين البقاء متشابكتين.
ففي حوالي 40 عاماً منذ عام 1967م لم يكن مصدر الحساسية والصعوبة الشعارات الإسرائيلية في القدس فمعظم اليهود والأرثوذكس يؤمنون بالنظرية العقيدية التي تحرم وصول اليهود إلى «جبل المعبد» إلى يوم القيامة وهذا ما ساعد "إسرائيل" على ترك إدارة الحرم القدسي ومساجده في أيدي المسلمين.
ولكن في القدس بكليتها ظلت سياسة "إسرائيل" مستحكمة بالسيطرة عليها وخلق وقائع جديدة وترتب على هذه السياسة إعادة تشكيل المدينة مادياً وديمغرافياً بتوطين يهود على الجانب الآخر من حدود ما قبل 1967 وخلق أحياء يهودية كبيرة إلى الشمال والشرق والجنوب من القدس الشرقية.
فالتغييرات المادية الضخمة جعلت من الصعب إعادة تقسيمها على طول حدود ما قبل عام 1967 ولكن في العديد من المستويات الأخرى فشملت السياسة الإسرائيلية فبقية العالم بما فيه الأمم المتحدة والولايات المتحدة ما زال يقول إن ضم "إسرائيل" للمدينة وتوطين اليهود على الجانب الآخر من الحدود القديمة غير مشروع.. كما أنه برغم الجهود الوحشية الإسرائيلية لإخراج العرب من منازلهم ما زال العامل الديمغرافي يتحدى كل التوقعات وبرغم كل الإعلانات الإسرائيلية ما زالت المدينة مقسمة روحياً وسكانها الفلسطينيون يرفضون المشاركة في الانتخابات البلدية ويصرون على ربط مستقبلهم كجزء من دولة فلسطينية مستقلة.
القدس عالم صغير قائم بذاته و"إسرائيل" وطنت اليهود في معظم أجزاء الضفة الغربية وهذه المستوطنات غير مشروعة أيضاً وكما الحال في القدس عمل العنصر الديمغرافي على تبديد الحلم بإقامة «إسرائيل الكبرى» فالحكومة الإسرائيلية القادمة تعترف بأنه يتوجب عليها التراجع إلى حدود أقل وترك جزء لإقامة دولة فلسطينية مستقلة عليها.
ولكن كما هو الحال في القدس الحدود القديمة ما قبل 1967 مسحت آثارها إلى حد كبير وفرص التوصل إلى تسوية متفاوض عليها تراجعت، ومن هنا جاءت الفكرة الكبيرة القائلة إن الإسرائيليين أدركوا أن أفضل شيء هو الانسحاب الأحادي الجانب إلى حدود من اختيارهم، ومن حيث الجوهر هذا يستلزم بناء حاجز أمني لمنع دخول الفدائيين وإخلاء مستوطنات بعيدة عن الجدار الأمني والتحصن خلفها وانتظار حدوث ما هو أفضل من ذلك.
من خلال انسحاب "إسرائيل" أحادياً من قطاع غزة وإذا ما أخلت "إسرائيل" مستوطنات أخرى في الضفة الغربية فسيكون أفضل من حيث آفاق قيام دولة فلسطينية في نهاية المطاف، ولكن حتى لو كان ذلك أفضل من لا شيء فإن هذه الترتيبات لن تكون بديلاً لسلام متفاوض عليه.
مرة أخرى تبين القدس سبب ذلك، فالحاجز الإسرائيلي ليس فقط من أجل الأمن وإنما هو أيضاً وسيلة لمصادرة المزيد من أراضي الضفة الغربية ومحاولة لرسم حدود أكبر لإسرائيل، وفي حالة القدس فإن الجدار الأمني يتجاهل العنصر الديمغرافي ويبتلع القدس الشرقية وهذا يتبع خط الأجزاء المراد مصادرتها كما أنه يحشر في الجانب الإسرائيلي مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين سيعزلون عن إخوتهم في الضفة الغربية وبالتالي سوف يضطر الكثيرون منهم إلى إشعال انتفاضة جديدة أو يتحولون إلى فدائيين.
إن من الواضح أن إعادة تقسيم القدس بالطريقة المزمع تنفيذها قريباً من قبل "إسرائيل" سوف تجعل الأمور أكثر سوءاً، فلن يكون هناك سلام ممكن إلا إذا ظلت المدينة مفتوحة من الغرب والشرق، وعلى الأقل ينبغي على "إسرائيل" إبقاء مسار جدارها الفاصل مفتوحاً، فإغلاق المناطق بالجدار وعزل الفلسطينيين في القدس سوف يجعل استئناف دورة العنف أكثر ترجيحاً.
جيمس دكنسون
صحيفة الوطن القطرية